هل تريدون الحد من تجاوزات الصحافة؟ - ياسر عبد العزيز


في عام 1956، استشعرت الحكومة الألمانية في بون أن بعض الممارسات الصحافية تتجاوز "الخطوط الحمراء"، وتتسبب في مشكلات للسلطة والدولة، في وقت حرج، تقف فيه البلاد على خط المواجهة في الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي.
لذلك، سعى وزير الداخلية في تلك الحكومة إلى إصدار تشريع يُمكّن الدولة من وضع الصحافة تحت الرقابة، عبر تشكيل لجان لمتابعة الأداء الصحافي و"تقويمه"، على أن يكون من بين أعضاء تلك اللجان سياسيون من الأحزاب الرئيسة.
أسقط في يد الصحافيين وناشري الصحف، خصوصاً أن الأجواء السياسية كانت مواتية تماماً لتمرير تشريع مماثل، وبعض قطاعات الجمهور كانت تشعر أن بعض الممارسات الصحافية تأخذ منحى إثارياً وغير مهني في أحيان كثيرة، وهو ما أثار المخاوف من عودة الاستبداد، وقمع الأصوات، وتكريس السيطرة على الصحافة.
لذلك، اجتمع صحافيون ومسؤولون وناشرون على الفور، وقرروا أن يأخذوا الأمر بأيديهم؛ أي: "بيدي لا بيد عمرو". وأنشأوا أول كيان لـ"التنظيم الذاتي" للصحافة في البلاد؛ وهو الكيان الذي استطاعوا أن يقنعوا الحكومة والجمهور بأنه قادر على "ضمان حرية الصحافة، والحد من تجاوزاتها الضارة في آن واحد". 
لقد أنشأ الوسط الصحافي الألماني إذاً "مجلس الصحافة" أو "البريسرات" Presserat، ليكون "منطقة عازلة" بين يد السلطة الخشنة، وذراع القضاء غير المتخصصة من جهة، والصحافة وحريتها من جهة أخرى.
فما الذي يفعله "البريسرات" تحديداً؟ وكيف يعمل؟ وما الفوائد المترتبة على عمله؟
تخيل أنك استيقظت يوماً لتجد صورة رأس الدولة منشورة على غلاف مجلة عارياً كما ولدته أمه، إلا من ورقة توت صغيرة تستر عورته.
أو أنك اشتريت صحيفة، فوجدت في صدر صفحتها الأولى صورة لأعلى قيادة روحية في البلاد وقد تبول في ملابسه. أو أن صحيفة شعبية أخرى نشرت صورة لاعب كرة قدم أصابته أزمة قلبية أثناء إحدى المباريات، فأسلم الروح بعد ألم ومعاناة، متحدية بذلك كرامته الإنسانية وحرمة الموت في آن.
ما الذي يمكن أن تفعله كـ"مواطن شريف"، يحب الصحافة، ويشتري الصحف، ويريد لها الازدهار والحرية، لكنه مع ذلك لا يقبل التجاوز في حق القادة السياسيين، أو علماء الدين ورجاله، أو الكرامة الإنسانية، ولا يجد مبررات واقعية لانتهاك حقوق هؤلاء الأشخاص والمساس بسمعتهم ومكانتهم؟
ربما تقاطع تلك المجلة أو الصحيفة، أو تقدم بلاغاً إلى النيابة في حقها، أو ترفع دعوى مباشرة أمام المحكمة مطالباً بمعاقبتها والقصاص منها، أو ترسل شكوى إلى إدارة تحريرها، أو تقصد جمعية الصحافيين طالباً منها أن تقوم بدورها في تأديب المخطئ والمتجاوز من أعضائها، أو تتظاهر أمام مقر الصحيفة، أو تتصل بالمحرر وتسبه وتهدده، أو أي سلوك آخر من تلك السلوكيات غير الفعالة وغير اللائقة.
لقد استطاعت المجتمعات الأكثر رشداً وتقدماً، والتي تمتلك أطراً مهنية أكثر نضجاً ووعياً، أن تتخطى تلك العقبات، وأن تطور نظاماً ذكياً للحد من تجاوزات الصحافة والحفاظ على حريتها وازدهارها في آن واحد.
الأمثلة الثلاثة المطروحة في بداية هذا المقال ليست أمثلة خيالية؛ ولكنها ممارسات صحفية حقيقية، صدرت عن ثلاث مؤسسات صحفية ألمانية مشهورة، لكن الجمهور الذي شعر بالضرر منها لم يفعل أياً مما يفعله بعض "المواطنين الشرفاء" أو "المسؤولين السياسيين" أو "رجال الأمن" في بلادنا، لأن ألمانيا ببساطة امتلكت آلية لـ"التنظيم الذاتي" لمهنة الصحافة.
لقد أتاح "التنظيم الذاتي" للمتضرر فرصة توجيه شكوى إلكترونية، لم تكلفه فلساً واحداً، إلى "البريسرات"، وقد قام هذا المجلس بتحقيق تلك الشكاوى، وأصدر فيها قرارات، تم الالتزام بها من قبل الصحف المشكو في حقها، وبعض هذه الصحف أُجبر، بسبب قرار المجلس، على نشر توبيخ علني في حق الممارسة الضارة التي قام بها، وبعضها الآخر تم تجميد الشكوى في حقه، لأن المجلس رأى أن الممارسة التي قام بها تقع في إطار حرية النقد ولا تنتهك المعايير أو الكرامة الإنسانية لأي شخص أو جهة أو فئة من الناس.
إن اللجوء بالشكوى إلى هيئة "التنظيم الذاتي" يكرس حق الجمهور في حماية نفسه من الممارسات الصحافية الحادة، ويهيئ للصحافي والصحيفة فرصة مراجعة الأداء عبر لجنة متخصصة، وينزل العقوبة المعنوية بحق المخطئ، ويعلن الممارسات المسيئة، ويشخص عوارها، ويحض على تفاديها، بما يعزز الثقة في المنظومة الصحافية كلها.
يعد "البريسرات" إحدى الهيئات المهمة لـ"التنظيم الذاتي" للصحافة في العالم الغربي، ليس فقط لأن عمره يمتد إلى ما يقارب ستة عقود، ولا لأن أهم أربع نقابات أو اتحادات مهنية تخص الصحافة والنشر الصحافي تسهم في عمله بفاعلية كبيرة، ولكن أيضاً لأنه نجح في تحقيق نحو 1500 شكوى ضد ممارسات صحافية في السنوات السبع الأخيرة.
كنا في مقر "البريسرات"، في أحد المباني الأنيقة، في قلب العاصمة الألمانية برلين، ضمن زيارة لوفد من الإعلاميين المصريين، قام بتنظيمها على نحو جيد "المعهد الدنماركي- المصري للحوار"، حين علمنا أن هذا المجلس نجح في تجنيب البلاد مخاطر العودة إلى الاستبداد وقمع الحريات الصحافية في بلد خرج من حرب عالمية طاحنة بهزيمة مذلة بسبب الحكم الاستبدادي، وأراد أن يصون الحريات باعتبارها إحدى أهم ضمانات التقدم.
وكما قال لنا المحامي رومان بورتاك مستشار المجلس، فإن مهام "البريسرات" الرئيسة تتلخص في الدفاع عن مصالح الصحافة وحماية حريتها، وإتاحة الفرصة للجمهور والمؤسسات والأطراف المختلفة لتقديم الشكاوى في حق الأداء الصحافي المثير للجدل، وفحص تلك الشكاوى وتقييمها وإصدار قرارات ملزمة بشأنها، وأخيراً إعداد الأكواد المهنية والأدلة التوجيهية لتحسين الأداء الصحافي، وتطوير تلك الأكواد لمواكبة التطورات المختلفة.
ليس "البريسرات" بدعة في هذا العالم من دون شك، ولكنه النسخة الألمانية من مؤسسات "التنظيم الذاتي" للصحافة، والتي بات وجودها ملازماً للمنظومات الإعلامية الناجحة والرشيدة في بلدان عديدة.
رومان بورتاك نفسه قال لنا، إن كثيراً من جوانب "التنظيم الذاتي" في ألمانيا تم تطويره عبر استلهام التجربة البريطانية في هذا الصدد.
كانت بريطانيا مصدر إلهام رئيس للدولة الألمانية في الشق الغربي من ألمانيا في ما يخص الإعلام والتنظيم الإعلامي؛ ليس فقط في مجال التنظيم الذاتي، ولكن أيضاً على صعيد الممارسات الصحافية أو تنظيم وسائل الإعلام العامة المملوكة للدولة.
وكما استلهمت شبكة الإعلام العام في ألمانيا ARD الكثير من أنماط التنظيم من نظيرتها في بريطانيا (هيئة الإذاعة البريطانية - بي بي سي)، فإنها استلهمت أيضاً مفهوم "التنظيم الذاتي" وآلياته.
تمتلك بريطانيا مؤسسة لـ"التنظيم الذاتي" لمهنة الصحافة المكتوبة؛ وهي "لجنة شكاوى الصحافة" Press Complaints Commission، وقد لعبت دوراً كبيراً في الحد من الممارسات الصحافية الضارة في بريطانيا عبر عقود، وإن كان القائمون عليها يبحثون الآن تجميد عملها، أو تغيير نمطه، لمواكبة التطورات التي طرأت على الأداء الصحافي.
ليس هذا فقط، ولكن بلداناً فقيرة أو ديمقراطيات ناشئة مثل إندونيسيا، وباكستان، والهند باتت تمتلك أطراً لـ"التنظيم الذاتي" للصحافة؛ وهي أطر أثبتت فاعلية في حماية حرية الصحافة والحد من ممارساتها الضارة في آن.
يحدث هذا حولنا في مناطق كثيرة من العالم، لكننا في المنطقة العربية لم ندلف من هذا الباب أبداً. تظل المشاحنات والقضايا والمعارك مشتعلة على هوامش الممارسة الصحافية والإعلامية في أكثر من بلد عربي، لكننا نحجم عن الحل، الذي أثبت فعالية ونجاعة في كثير من دول العالم المتقدم.
هل حان الوقت لكي نبدأ في تطوير آلية "التنظيم الذاتي" لصحافتنا إذاً؟