الإعلام التونسي: عـــشـــر رهـــانــــات أسـاسيّـــة - الدكتور الصادق الحمامي

  

يشهد المجال الإعلامي في تونس بعد الثورة تحوّلات عديدة وحاسمة على كل المستويات. فبعد 14 جانفي انهارت المنظومة السلطوية التي تحكم المجال الإعلامي في تونس.  ومن أهمّ سمات هذه المنظومة الطابع الزجري للنصوص المنظمة للعمل الصحفي (مجلّة الصحافة) وتعطيل بعض آلياتها
(رفض تسليم وصل الإعلام الضروري لطباعة الصحيفة) وغياب الأطر التنظيمية لإدارة المجال السمعي البصري والحدّ من صلوحيات المجلس الأعلى للاتصال الذي كان هيكلا صوريا لا فعالية له والتحكّم في الإشهار العمومي وغياب مرجعية معلومة لإدارة المؤسّسات الإعلامية العمومية وسلعنة التلفزيون العمومي والتضييق على العمل النقابي الصحفي والحدّ من فعاليته، وغياب آليات قياس جمهور الإذاعة والتلفزيون والامتناع عن إسناد بطاقات مهنية لصحفيي مواقع الصحافة الإلكترونية بالرغم من  انسجام العديد منها مع معايير المؤسسات الإعلامية والعمل الصحفي.
يتمثّل الرهان الكبير إذن في الانتقال نحو إدارة ديمقراطية للمجال الإعلامي ذات مــعايير عالمية.وفي هذا الإطار فإن الإطار السياسي الديمقراطي الجديد المنظّم للإعلام لا بدّ أن يستمدّ شرعيته من النقاش العام الذي يمكن أن ينتظم  في إطار ندوة وطنية (Etats généraux des médias) يجمع الأحزاب السياسية ومنظّمات المجتمع المدني والمهنيين (مؤسّسات ونقابة الصحفيين) ومؤسّسات التكوين والمتخصّصين  لرسم الملامح الكبرى للتنظيم السياسي الديمقراطي للإعلام قبل طرحه على الهيئات التشريعية.
الرهان الأول: رهان المجال العمومي
لا يرتبط هذا الرهان بإشكاليات تنظيمية أو قانونية أو سياسيّة بل بالانتقال من مجال عمومي تسلّطي قائم على الخطاب الواحد والصورة الواحدة إلى مجال عمومي متعدّد ومتنوّع يقوم على التفاوض والنقاش والحوار واحترام حقّ الجميع في التفكير والتعبير. وعلى عكس الرهانات الأخرى التي تخضع لقرار سياسي أو تنظيمي فإن المجال العمومي الديمقراطي يتشكّل ثقافيا على المدى الطويل ويقتضي ذهنيات جديدة  تستبطن الديمقراطية بما أنها نموذج لتنظيم المجتمع لا يمكن اختزاله في الآليات الانتخابية. وللإعلام دور هام في تنظيم النقاش العام وهذا من أهمّ واجباته اليوم. ويعني تنظيم النقاش العام طرح القضايا التي تهمّ المجتمع التونسي واحترام مبدأ تعدّد الأصوات والتنوع الفكري للمجتمع التونسي وأخلاقيات النقاش. ومن القضايا الإشكالية الأخرى التي ترتبط بإدارة الإعلام للنقاش العام البحث عن التوازن بين خطاب النخب من أحزاب وسياسيين وخطاب الجمهور وبين الانفتاح على المجتمع السياسي والانفتاح على المجتمع المدني.
وفي هذا الإطار فإن  فضاءات المجال العمومي الافتراضي الذي يتكوّن من المدونات والشبكات الاجتماعية أضحت تؤدي دورا هاما يجب الانتباه إليه والتفكير فيه بعيدا عن خطابات الاحتفاء والإشادة. فالفايسبوك ليس دائما فضاء للحوار الرصين والنقاش المتوازن والمنفتح بل هو في حالات عديدة فضاء للثلب والقدح والتشهير ومجال للنقاش المتوتر والانغلاق داخل جماعات لا تقبل الاختلاف. كما يتحول النقاش في الفايسبوك أحيانا إلى فوضى حيث الجميع يتحدّث للجميع وحيث لا أحد يستمع إلى الآخر.  وإذا كان من الطبيعي  الإقرار بالدور الذي تؤديه الشبكات الاجتماعية والمدونات في الكشف عن  الوقائع التي تريد وسائط الإعلام إخفاءها  وفي إعطاء الكلمة للمواطن المغمور  للتعبير فنحن نعتقد أن الفضاء الأجدر بتنظيم النقاش العام في مجتمع، لا  يزال يعاني من الأمية الرقمية، هو الفضاء التلفزيوني والإذاعي أولا وفضاء الصحافة المكتوبة ثانيا نظرا  لقدرة المجتمع على إلزام هذه الوسائط باحترام الضوابط القانونية والأخلاقية ومساءلتها عبر الهيئات المستقلّة (كمجالس الصحافة وهيئة الإشراف على القطاع السمعي البصري).
الرهان الثاني: تنظيم قطاع الإعلام السمعي البصري
من مهام هذه الهيئة الإشراف على القطاع بعد إلغاء وزارة الاتصال (أو الإعلام)، إذ  يستوجب الوضع الحالي التفكير في هيئة تشرف على القطاع السمعي البصري التي يوكل لها مهامّ إسناد الرخص للإذاعات والتلفزيونات وفق كراس شروط  محدد وإدارة الموجات المخصّصة للإذاعة والتلفزيون gestion des fréquences   يناقشه البرلمان ويصادق عليه. ويمثل كرّاس الشروط الآليّة التي تراقب من خلالها الهيئة احترام القنوات الإذاعية والتلفزيونية لالتزاماتها القانونية والثقافية. كما تشرف هذه الهيئة على الحملات الإذاعية والتلفزيونية أثناء الانتخابات التشريعية والرئاسية والبلدية.... ووفقا للنموذج الفرنسي على سبيل المثال فإن أعضاء المجلس الأعلى السمعي البصري يعينهم رئيس الدولة ورئيس البرلمان ورئيس الغرفة الثانية ونظرا لخصوصيات السياق التونسي يمكن التفكير في حلول أخرى يجب النقاش فيها.  ومن المقتضيات القانونية المركزيّة التي يستوجب التفكير فيها كذلك تحديد مصادر تمويل القنوات الإذاعية والتلفزيونية وإلزامها بالشفافية الكاملة حتى لا يتحوّل المشهد الإعلامي التونسي إلى فضاء مفتوح بلا ضوابط تتحكّم فيه قوى سياسية خارجية أو قوى مالية مشبوهة.
الرهان الثالث: وضع إطار تنظيمي لإدارة القنوات الإذاعية والتلفزيونية العمومية
تعتبر الإذاعات والتلفزيونات العمومية مؤسّسات يملكها المجتمع وهي تخضع بالتالي إلى نوع مخصوص  من الإدارة والتمويل من خلال الإشهار ومساهمات والمواطنين   Redevance في حين تستثني بعض المؤسّسات مثل البي بي سي الإشهار. وفي هذا الإطار يجب إعادة التفكير في آليات تمويل الإعلام السمعي البصري العمومي التونسي وفق نموذج يأخذ بعين الاعتبار خصوصيات المؤسّسات وإمكانات الدولة وبعد أن شهدت التلفزة التونسية الوطنية سلعنة أفسدت هويتها.
وعلى مستوى الإدارة فالقضايا المطروحة تتعلّق بآليات تعيين  المسؤولين (في فرنسا يعتمد مبدأ الترشح وفق شروط، أما في بريطانيا فتعيّن الملكة بعد استشارة الوزير الأول أعضاء BBC Trust الذي يعين بدوره  مدير الهيئة كما يشرف على هيئة البي بي سي جهاز آخر يسمى Executive Board  ).  كما يجب التفكير في وضع  كرّاس شروط يحدّد بشكل واضح مهامّ الإذاعات والتلفزيونات العمومية   باعتبارها مرفقا عاما  : والتي تتصل بخدمة الجهات والثقافة الوطنية واحترام مبدأ التنوّع الثقافي والتعدّدية السياسية..... ويمثّل كرّاس الشروط الآلية الرئيسة لمساءلـة الإذاعـات والتلفزيونات العمومية. 
الرهان الرابع: إعادة صياغة مجلة الصحافة وفق فلسفة ديمقراطية وتحررية
يجمع المهنيون والمتخصّصون على ضرورة إعادة صياغة مجلّة الصحافة وفق فلسفة تحرّرية تكرّس حرية الرأي والتعبير وتلغي العقوبات الجزائية ضد الصحفيين بشكل خاص وكل ما يتعلق بممارسة التعبير بشكل عام.
الرهان الخامس: إعادة التفكير في منظومة التكوين
 أستخدم معهد الصحافة طويلا كبش فداء لتبرير العجز الديمقراطي للإعلام التونسي من خلال الترويج لفكرة ضعف التكوين. وبالرغم من هذا فإن إعادة التفكير في منظومة التكوين في مهن الصحافة والاتصال تبدو اليوم ضرورة ملحّة. وبالنظر إلى التجارب العالمية فإن الاتجاهات الكبرى لإصلاح منظومة التكوين تتعلّق بفصل التكوين في مجال الصحافة عن التكوين في مجال الاتصال الذي يجب أن يتحوّل إلى مسلك علمي جامعي  كما هو الحال في فرنسا على سبيل المثال. ومن السيناريوهات الممكنة إنشاء كلية للإعلام والاتصال تتكون من مؤسّستين: معهد خاصّ بالاتصال وعلومه النظرية واختصاصاته العملية (تكوين الملحقين الصحفيين ومهنيي الاتصال بشكل عام) ومدرسة عليا للتكوين في الصحافة ذات توجه أكثر مهنيّة. ويمكن إشراك المهنيين في منظومة التكوين من خلال اتفاقيات يتحمّل فيها كل طرف مسؤولياته (التزام المؤسّسات المهنية بتشغيل الطلاب الحاصلين على شهادة جامعية في الصحافة، التربّصات....). وفي الإطار ذاته يمكن أن نشير أيضا إلى الدور الذي يمكن أن يلعبه المركز الأفريقي لتدريب الصحفيين والاتصاليين في تعزيز مهارات  الصحفيين في اختصاصات بعينها أضحت هامّة في السياق الجديد والتي تم تغييبها في العهد السابق على غرار الصحافة الاستقصائية.
الرهان السادس: وضع إطار تنظيمي للصحافة الإلكترونية
سيشهد قطاع الصحافة الإلكترونية تطوّرات كبيرة نظرا لسهولة إنشاء المواقع. وفي هذا الاتجاه تفيدنا التجارب العالمية أن الإشكالية لا تتعلق بإنشاء المواقع الإخبارية التي يجب أن يبقى حرا وغير خاضع لأي شكل من أشكال الترخيص لكن بالاعتراف بهذه المؤسّسات في مستوى إسناد بطاقة الصحفي وإسناد المساعدات العمومية فحسب. وبالنظر إلى هذه التجارب (فرنسا، جائزة بوليتزر الأمريكية...) فإن المواقع الإخبارية المعترف بها والتي  تحصل على مساعدات الدولة (في فرنسا) وعلى بطاقة مهنية لصحفييها هي تلك التي تخضع لمواصفات المؤسّسات الصحفية (entreprise de presse ) في مستوى نشاطها الاقتصادي الذي يجب أن يقتصر حصريّا على الإعلام وفي مستوى  المحررين (صحفيين) وفي مستوى مضامينها (أصيلة وغير مستنسخة من مواقع أخرى) ودوريتها والتزامها بأخلاقيات العمل الصحفي.
الرهان السابع: إنشاء هيئة لقياس جمهور الإذاعة والتلفزيون
 يعتبر قياس مشاهدة الإذاعة والتلفزيون ركيزة أساسية لتنظيم تنافس القنوات الإذاعية والتلفزيونية على الإشهار باعتباره موردا أساسيا  لاقتصادها. وفي تونس ورغم تعدّد القنوات الإذاعية والتلفزيونية الخاصّة والعمومية فقد بقي هذا القطاع خاضعا لمبدإ الفوضى، إذ تتحكّم فيه بعض مكاتب الدراسات دون احترام المعايير العالمية وآليات الشفافية الدنيا. فقطاع قياس المشاهدة والاستماع يخضع إلى التنظيم حتى في الدول الأكثر ليبرالية مثل الولايات المتحدة الأمريكية حيث يشرف مجلس ممثل للمهنيين والمؤسسات الاقتصادية على تنظيم دراسات القياس في حين أنشأت  المؤسّسات الإعلامية والاقتصادية الفرنسية مؤسّسة مشتركة لإنجاز الدراسات في هذا المجال. وفي هذا الإطار فإن إنشاء منظومة قياس المشاهدة والاستماع وفق منطق التنظيم الذاتي  autorégulation يمثل الركيزة الأساسية لتطوير المشهد السمعي البصري التونسي حتى لا تتحكّم بعض المكاتب ذات المصالح «الخاصة جدّا» في موارد القنوات الإذاعية والتلفزيونية كما كان الأمر قبل 14 جانفي.
الرهان الثامن: أخلاقيات المهنة
إضافة إلى المواثيق الأخلاقية والآليات التي يضعها الصحفيون في إطار المؤسسات الإعلامية أو في الأطر النقابيّة، لا بد من التفكير في إنشاء مجلس مستقلّ لتنظيم العلاقة بين الجمهور والصحفيين في المسائل المتعلّقة باحترامهم لأخلاقيات المهنة. وتبين التجارب العالمية في الدول الديمقراطية أهمية هذه المجالس. ويعتبر اليونسكو مجلس الصحافة الآلية الديمقراطية المناسبة لتنظيم أخلاقيات المهنة والدفاع عن حرية الصحافة.  ويتكوّن مجلس الصحافة من الصحفيين أوّلا ومن الناشرين ومن المواطنين. ويتلقى المجلس شكاوى الجمهور ويبتّ فيها وفق عدة آليات ( الوساطة، توجيه النقد العام للصحيفة...).
الرهان التاسع : أي مستقبل للصحافة الحزبية
ثمّة عدّة أسئلة أساسية لا مفر من طرحها بكل مسؤولية حول مستقبل الصحافة الحزبية في تونس:  فهل من المشروع أن تنتفع الأحزاب بالأموال العمومية لتمويل صحفها التي لا علاقة مباشرة لأهدافها بالمصلحة العامة، على عكس الإذاعة والتلفزة العمومية ؟ وهل يمكن لميزانية الدولة أن تتحمل تمويل عشرات الصحف ملتزمة بالخطّ الإيديولوجي لأحزابها وتمارس في النهاية الدعاية لها، وهذا دورها الطبيعي) ؟ وهل الصحافة  الحزبية مرفق عام حتى يموّلها المواطن من ضرائبه ؟ ولماذا لا نجد صحافة حزبية في الديمقراطيات الأصيلة ؟
الرهان العاشر: تطوير التلفزيون الرقمي
يمثل الانتقال نحو التلفزيون الأرضي الرقمي رهانا تكنولوجيا وديمقراطيا. فالتكنولوجيا الرقمية تطورّ من جودة البث إضافة إلى أنها ستوفر إمكانات جديدة لإنشاء عدد هام من القنوات الوطنية الأرضية مما يساهم في تعزيز التعددية الثقافية للمشهد الإعلامي السمعي البصري الوطني. وهنا أيضا تبين التجارب العالمية أن الإعلام الخارجي لا يمثل مصدرا إخباريا عندما يقوم الإعلام الوطني بدوره (المواطن الفرنسي والألماني والأمريكي لا يستقي أخباره من مصادر أجنبية مهما كانت حرفيتها وإشعاعها).
استاذ مساعد بمعهد الصحافة وعلوم الاخبار
 مؤسس ورئيس تحرير البداية العربية لعلوم الاعلام والاتصال