لماذا فشل إصلاح الإعلام ؟ الدكتور الصادق الحمامي


مقال صدر بجريدة الصحافة  بتاريخ 22 جويلية 2012
أعلنت الهيئة المستقلة لإصلاح الإعلام والاتصال عن إنهاء عملها متّهمة الحكومة بعدم التجاوب مع مقترحاتها. ومن جهتها عبرت الحكومة عن استغرابها من هذا القرار في الوقت الذي ما انفكت فيه تتذمر من الإعلام والصحفيين متهمة إياهم بأنهم يقومون بأدوار المعارضة.  
ويعكس قرار الهيئة في رأينا فشل عملية إصلاح الإعلام برمتها.  عدة عوامل تفسّر هذا الفشل:

أولا: لا تملك الحكومة (والترويكا  بشكل عام) رؤية إصلاحية شاملة للقطاع لأنها لم تفهم بعد ما هو الدور الذي يجب على الدولة أن تقوم به في هذا المجال. فاستقلالية الإعلام العمومي والخاص لا تعني أن الدولة ليس لها أدوارا مخصوصة يجب أن تؤديها والتزامات عليها أن تتحملها، في الوقت ذاته الذي يروج فيه بعض الخبراء فكرة إلغاء دور الدولة أصلا.
فتجارب الدول الديمقراطية العريقة تبين أن استقلالية الإعلام العمومي والخاص لا تعني غياب الدولة عن هذا القطاع. هكذا نجد في بريطانيا «كتابة دولة للثقافة والرياضة والإعلام» تشمل مهامها متابعة القطاع السمعي البصري العمومي. كما أن مؤسّسة البي بي سي تخضع إلى عقد (royal charter) تتحصل بمقتضاه على الترخيص من الدولة.
  أما في فرنسا فإن «إدارة تطوير الإعلام» التابعة لوزارة الاتصال والثقافة  تقوم بتنسيق سياسة الدولة وتقييمها في مجال «التعددية الإعلامية  والصناعة الإشهارية وقطاع الاتصال الإلكتروني الموجّه إلى الجمهور العريض». وتقوم هذه الإدارة كذلك بالتصرّف في «الصندوق الإستراتيجي لتطوير الصحافة» الذي يقدم مساعدات لمؤسّسات الصحافة المكتوبة (في إطار عقد يبيّن التزامات المؤسسات المنتفعة بالمساعدات). وفي فرنسا كذلك تتابع  الدولة والهيئات المنتخبة تطبيق المؤسّسة التلفزية العمومية التزاماتها ومهامها المنصوص عليها في عقد الأهداف والمهام.  
وإضافة إلى غياب هذه الرؤية الإصلاحية للقطاع، فإن الحكومة تبدو منشغلة أساسا بمعالجة إشكالية الإشراف على الإعلام بل والسيطرة عليه. وما إحجامها عن إصدار القرارات الترتيبية الكفيلة بإحداث الهيئة العليا السمعية البصرية إلا تعبير صريح على أنها لا تقبل التفريط في آليات السيطرة على الإعلام. وقد تجسّدت هذه الإستراتيجية في مقترح التركيبة الجديدة للهيئة العليا السمعية البصرية التي ستتكون، حسب اتفاق أوّلي في المجلس التأسيسي، من 9 أعضاء ينتخبهم المجلس التشريعي. ويعني القرار بكل بساطة أن حزب الأغلبية البرلمانية سيتحكم بآليات تعيين الهيئة التي ستشرف على إدارة القطاع السمعي البصري. وجدير بالذكر أن التركيبة المقترحة في المرسوم عدد 116 تتكون  في أغلبها من ممثلين عن النقابات، ممّا يعني أننا انتقلنا من هيئة تسيطر عليها النقابات (التي تدافع نظريا عن حقوق منخرطيها ومصالحهم) إلى هيئة  يسيطر عليها، في إطار  النظام البرلماني المطلق الذي تدافع عنه النهضة وفي ظلّ غياب ثقافة التوافق السياسي، حزب الأغلبية.
ثانيا: تتحمل الهيئة المستقلّة لإصلاح الإعلام والاتصال قسطا من المسؤولية في فشل عملية الإصلاح، رغم بعض الإنجازات التي حققتها. فحالة الوجود الصوري الذي نعتت به ذاتها لم ينتج فقط عن إستراتيجية تجاهل الحكومة لدورها فحسب (مسألة التعيينات تبدو هنا ذات أهمية) بل هي كذلك نتيجة مقاربة عملية الإصلاح التي لم تكن تشاركية ومنفتحة بالقدر الكافي. فالهيئة لم تعتمد فلسفة التنظيم الذاتي التي تقتضي أن يدير المهنيون بشكل صريح وحاسم عملية إصلاح قطاعهم. فبجلت المقاربة التي اعتمدتها الهيئة “الخبراء” الذين صاغوا المراسيم ودافعوا عنها أمام الرأي العام وكأنهم أصحاب الشأن، في حين أنهم لا يمثلون في الحقيقية سوى آلية مساندة ونصح للمهنيين الذين يجب أن يمثلوا المصدر الأساسي لعملية الإصلاح.
 كما أن المقاربة التي اعتمدتها الهيئة لم تستثمر بشكل كاف آليات النقاش العام الذي يجب أن يتفاعل في إطاره المهنيون (من القطاع العمومي والقطاع الخاص) مع السياسيين وممثلي الشعب، ذلك النقاش الذي يترجمون فيه الإصلاحات إلى قوانين. هكذا تحوّل الخبير من وسيط ييسر عملية الإصلاح عبر توظيف معارفه التقنية، إلى ملهم الإصلاح ومحركّه الأساسي.
وفي مستوى آخر انصب جهد الإصلاح بشكل غريب على الأطر القانونية والتنظيمية: إشكالية الإشراف على القطاع السمعي البصري (المرسوم عدد116)، تنظيم حرية التعبير والنشر (المرسوم عدد 115 ) والنفاذ إلى الوثائق الإدارية للهياكل العمومية (المرسوم عدد 41).
هكذا يبدو بكل وضوح أن إشكاليات تنظيم «سلطة الإعلام» وحرية التعبير هيمنت على الحراك الإصلاحي برمته في حين ظلّت المقاربة المؤسساتية  المنشغلة بإصلاح المؤسسة الإعلامية باعتبارها مؤسّسة صناعية واللبنة الأساسية للصناعة الإعلامية هامشية إن لم تكن غائبة تماما. فالأطر القانونية والتنظيمية ليست سوى عامل من جملة عوامل متعددة تساهم في تطوير الإعلام وعصرنته.
فهل يمكن  لهذه المراسيم أن تؤسّس لإعلام تونسي مستقل ومهني وذي جودة عالية في سياق لا تزال فيه المؤسسة الإعلامية هشة تنظيميا واقتصاديا وذات موارد بشرية محدودة وعاجزة في مجملها، بسبب عجز هيكلي تاريخي، عن ابتكار منتج إعلامي ذي جودة عالية.
وإضافة إلى هيمنة المدخل القانوني، اتسمت المقاربة الإصلاحية بتنظيم العلاقة بين الصحفيين والإدارة داخل المؤسسة الإعلامية  عبر التأكيد على استقلالية الهيئات التحريرية. وكأن الصحفي يمكن أن يكون مستقلا ومهنيا في مؤسّسات إعلامية لا تتوفر فيها شروط الاستقلالية والمهنية وهما خصلتان لا تعنيان الصحفي فحسب بل هما مرتبطتان كذلك بطبيعة المؤسسة. فالمؤسسة الإعلامية الخاصّة تستمد استقلاليتها من حلقة فاضلة: منتج إعلامي متناسب مع السوق وذو جودة عالية يستقطب قدرا معينا من الجمهور تستقطب بفضله المؤسّسة الإعلامية الموارد الإشهارية التي تضمن لها الاستقلالية عن إستراتيجيات الهيمنة.
ثالثا : يتحمّل المهنيون كذلك قسطا من المسؤولية لأنهم فوضوا أمر قطاعهم للخبراء في حين أنهم الأولى بقيادة عملية الإصلاح. كما أنّهم انخرطوا بدورهم في النقاش حول إشكالية تنظيم «سلطة الإعلام» في حين أن إصلاح المؤسّسة الإعلامية لا يقل أهمية عن معالجة إشكاليات الإشراف على القطاع.
رابعا: من العوامل الأخرى التي ساهمت في إفشال عملية إصلاح الإعلام الحملات  التي أدارتها بعض الأطراف ضد المؤسّسات الإعلامية والصحفيين متهمة إياهم بأنهم يمثلون «إعلام العار» المناهض «للثورة وأهدافها». فانخرط جزء من المواطنين ومن ناشطي الفايسبوك (الذين تعتبرهم حركة النهضة صحفيين من طراز جديد)  في حملات تشهيرية وعدائية عنيفة ضدّ الإعلاميين متهمين إياهم بأنهم  “فلول” و”أزلام”. وخلقت هذه الحملات شعورا لدى الصحفيين والمهنيين بأنهم مهدّدون في وجودهم كما أنها غيّبت إشكاليات الإصلاح الحقيقية. وفي هذا الإطار لا مناص من الإشارة إلى أن الإعلام المستقل والمهني والعصري يقتضي كذلك جمهورا مستنيرا قادرا على التلقي النقدي للمضامين المعروضة عليه.   فكيف يمكن للإعلام أن يكون نزيها ومحايدا عندما يتفاعل الجمهور أو أجزاء واسعة منه مع الإعلام من منطلق حزبي وإيديولوجي أو انتهازي مطالبا إياه بأن يعرض عليه ما ينتظره حتى يرى الواقع من خلاله وفق الصورة التي يرغب فيها ؟
خامسا : تحتاج عملية الإصلاح إلى بيئة سياسية مواتية للنقاش العام السياسي غير المتحزب القائم على مرجعيات قيمية ومعيارية مشتركة تتيح الحوار الرصين المنفتح والتفاهم.  فهل توفرت هذه البيئة  حتى يشرع المجتمع السياسي في إصلاح ما يعتقد الجميع أنه قطاع إستراتيجي لنجاح الانتقال الديمقراطي؟    
خلاصة القول إن الإعلام المهني والمستقل والعصري لا يستخرج من الأطر التشريعية والتنظيمية فحسب حتى وإن كانت هذه الأطر مطابقة للمعايير العالمية. كما أن هذا النوع من الإعلام المنشود لا يظهر مرة واحدة من الصيرورة الثورية كما يريد أن يوهمنا بذلك الخطاب الثوري المهووس بقصّة «الأزلام». فالاستقلالية والمهنية والجودة هي نتيجة عملية مركبة تتفاعل فيها عوامل عديدة : الأطر التنظيمية والقانونية والمؤسسات  الإعلامية العصرية والموارد الإشهارية الوافرة والصحفيون الأكفاء والذهنية الثقافية الجماعية القابلة لمبدأ الإعلام المتعدد. وتحتاج هذه العملية للأسف إلى وقت طويل.   

ما العمل ؟

لكن في المقابل كيف يمكن الخروج من المأزق الراهن ؟ أي بتعبير آخر ما هي الشروط العاجلة التي يجب أن تتوفر لإعادة الروح إلى عملية إصلاح الإعلام ؟
ثلاثة مسالك يمكن انتهاجها :
أولا: على المهنيين مسك زمام عملية إصلاح قطاعهم لأنهم الأولى بهذه العملية والأكثر قدرة على تشخيص مشاكل قطاعهم وأمراضه. ونعني بالمهنيين أساسا أصحاب المؤسّسات الإعلامية من جهة أولى ونقابات الصحفيين والمهن الأخرى المرتبطة بالصناعة الإعلامية من جهة ثانية. ولا يمكن لعملية استعادة المهنيين سلطتهم على قطاعهم دون ثقافة الحوار والتعاضد التي تبجّل المصالح المشتركة التي تقوم على فلسفة النجاح المشترك(gagnant- gagnant) . فالصحفي الناجح يعمل بالضرورة في مؤسّسة إعلامية ناجحة.
ثانيا : على الدولة أن تتحمل مسؤولياتها إزاء القطاع. فالدولة العصرية في المجتمع الديمقراطي لا يمكن لها، كما وضّحنا ذلك عبر المثالين الفرنسي والبريطاني، أن تنسحب من مجال الإعلام بحجة ضمان استقلاليته. فللدولة دور محوري يجب أن تؤديه في مجال توفير البيئة الملائمة لعصرنة المؤسسات الإعلامية. كأن تنشئ الدولة مثلا صندوقا لتمويل تأهيل القطاع الإعلامي الخاص صناعيا وتجاريا وبشريا وتكنولوجيا لعصرنه المؤسسة الإعلامية وفق شروط محددة ومنها على وجه الخصوص الالتزام بكراس شروط تحدد التزامات المؤسسة الإعلامية في مستوى إدارة التحرير والشفافية المالية... كما أن للدولة دورا في عصرنة المؤسّسات الإعلامية العمومية  عبر وضع عقد  يتضمن التزامات هذه المؤسّسات في مجال الإصلاح الذاتي في كل المجالات بما أنها تتمتع بالتمويل العمومي. وتحتاج هذه المقاربة الجديدة لدور الدولة الإصلاحي أن تتخلى النخب السياسية عن تلك الذهنية العتيقة التي ترى في الإعلام سلطة سحرية يجب الاستحواذ عليها لكسب ولاء المواطنين.
ثالثا : على الأطراف الأساسية الفاعلة في قطاع الإعلام أي المهنيين والدولة ونواب الشعب أن  يجتمعوا في إطار حواري منفتح على كل الفاعلين السياسيين والمدنيين لمناقشة إستراتيجية إصلاح الإعلام في إطار مقاربة غير أداتية ومتعددة الأبعاد للإعلام تنصب على تشخيص الإعلام التونسي، باعتماد الدراسات العلمية، من جهة نسيجه المؤسّساتي على وجه الخصوص : القيمة الاقتصادية للقطاع، تنظيم المؤسّسات، سياسات التمويل والاستثمار، تنظيم قطاع الإشهار، التكوين، سياسات توظيف التكنولوجيا الجديدة، الجمهور...، مسالك التوزيع. ويمكن أن يفضي هذا النقاش العام، إضافة إلى التوافق على المراسيم التي تم إقرارها، إلى خطة شاملة لإصلاح القطاع برمته، إصلاح ينصب بالأساس على المؤسّسة الإعلامية باعتبارها اللّبنة الأساسية للقطاع.
(*) مؤسس ورئيس تحرير البوابة العربية لعلوم الاتصال