في الحاجة المزدوجة إلى السلطتين الرابعة والخامسة - الدكتور الصادق الحمامي


مقال صدر في منتدى جريدة الصحافة الأحد 24 جويلية 2011
إنها مفارقة عجيبة حقا ! ففي الوقت الذي يتعرّض فيه الصحفيون إلى أنواع متعددة من العنف والضغوطات والمضايقات، يتذمر بعض السياسيين والمواطنين والتيارات الفكريّة من عدم احترام النشرات الإخبارية على القنوات العمومية والخاصة لمعايير الحياد والتوازن والموضوعية...


تحيلنا هذه المفارقة على الطابع المركّب لإشكاليّة الصحافة التي لا يمكن اختزالها في ثنائية الحرية والقانون. فاختزال النقاش العام حول واقع الصحافة ومستقبلها في هذه الثنائية قد يؤدي إلى نتائج خطيرة على الصحافة الجديدة التي نطمح إليها وعلى أدوارها الأساسية في بناء مجال عمومي متعدّد وفي تأسيس نقاش عام ديمقراطي.

القناة.... «مزرعة خاصّة»!
إن التركيز على حريّة الصحافة أمر ضروري ومشروع في سياق الخروج من منظومة الإعلام السلطوي الزجرية واسترجاع الصحفيين لهيبتهم من جهة أولى وفي سياق لا يزال يتعرض فيه الصحفيون إلى أنواع متعددة من العنف والمضايقات والتوظيف. لكن في الوقت ذاته فإن اختزال تجديد الصحافة التونسية في شعار الحريّة يمكن أن يؤدّي إلى نتائج عكسية إذا لم تخضع الحريات الجديدة إلى تنظيم يحميها من التلاعب. فالصحفي، الملتزم بالقواعد المهنية والمعايير الأخلاقيّة والمستقلّ عن المصالح  السياسية والاقتصادية والإيديولوجية والذي يطمح إلى إخبار المواطن وتنويره، يرتقي بالحريّة إلى مستوى الضرورة لأنها تصبح بالنسبة إليه الوسيلة التي تتحقق من خلالها مهنيته وأخلاقياته واستقلاليته. لكن الصحفيين ليسوا كلهم كائنات مثاليّة وملائكيّة ومؤمنة بحرية الاعتقاد والتعبير. ففي السياق التونسي حيث  لا يزال النفاذ إلى المهنة غير منظم بالقدر الكافي نجد من في الحقل الصحفي من لا يعرف القواعد المهنية ولا يستسيغ المعايير الأخلاقية ومن لا يعبأ بالاستقلالية. بل ثمّة من يبحث عن الارتباط بالمصالح الاقتصادية ومن يطمح إلى أن يكون ممثلا لأيديولوجيات بعينها. ومن جهة أخرى فإن الصحفي بصيغة المفرد غير موجود في الواقع، لأن الصحفي مرتبط دائما بمؤسسة إعلامية قد تمارس هي أيضا أحيانا نوعا مغشوشا من الحريّة فتتحوّل إلى «مزرعة خاصّة» لمالكها يطوّعها بكل حرية لرغباته. إن الحرية هنا بالنسبة لهذه المؤسّسات الإعلامية إفلات من كل ضابط مهني وأخلاقي. هكذا يمكن للمؤسسة الإعلامية أن تعبث بحرية الصحافة التي تتحوّل هنا من مهنة إلى تجارة فوضية.
إن التركيز على حرية الصحافة فقط دون ربطها دائما بالمسؤولية في إطار عقد يتفق عليه التونسيون قد يؤدي إلى تحويل الإعلام إلى قطاع فوضوي تروّج فيها كل أنواع المضامين المهنية وغير المهنية. إن الإعلام في الديمقراطية، على عكس الأنظمة الشمولية والسلطوية، يخضع لتنظيم معلوم ودقيق. وفي هذا الإطار فإن  المؤسسة الإعلامية الخاصّة لا يمكن أن يتصرّف فيها صاحبها كما يشاء بحجة أنه يملكها كما يؤكّد على ذلك نظام مساءلة الإعلام  media accountability system الذي وضعه الباحث الأمريكي جون كلود بارتراند. 
السلطة الخامسة
وفي هذا الإطار فإن المساءلة تمثّل احدى آليات التنظيم الهامة. والمساءلة أشمل من القانون وأكثر فعالية منه.  لأن القانون لا يشمل سوى حالات بعينها كالثلب مثلا ويبقى عاجزا أمام ممارسات أخرى خفية تتلاعب بعملية الإخبار برمتها. إن المساءلة لا تعني تحويل الصحفي إلى متّهم وموضوع للريبة بل تحمي الصحفي  بالأساس لأنها تذكّره دائما بأنه مسؤول على ما يكتب ويقول وأن الجمهور يقظ ويمكن أن يحاسبه على ذلك. ومن جهة أخرى فإن الصحافة التي تسعى إلى أن تكون سلطة تقتضي كذلك سلطة مضادة، سلطة المواطن والمجتمع.
 وفي هذا الإطار فإن إرساء المراصد الإعلامية هي إقرار بأن المؤسسات  الصحفيّة يمكن أن تحيد عن مهنيتها واستقلاليتها. هكذا نشأ على سبيل المثال المرصد العالمي للإعلام media Watch Global   الذي اقترحه الباحث والصحفي الفرنسي Ignaciot Ramonet   الذي ينادي بسلطة خامسة تتصدّى للمؤسسات الإعلامية في إطار ما يسمّيه  «إيكولوجيا الإعلام» تراقب سلطة الإعلام الذي أصبحت سلطة «ملوّثة» و«منفلتة».
فالصحافة ممارسة ممأسة في إطار تنظيمات ذات مصالح متداخلة ترتكب تجاوزات لا حصر لها : التستر على الأحداث وتشويهها واختلاق وقائع وهمية والدعاية المقنعة والتأثير المستتر والتعتيم والحجب والصنصرة وتبجيل شخصيات على حساب شخصيات أخرى والترويج الخفي والماكر لبعض الأفكار والإيديولوجيات الشمولية. 
هكذا تحمي آليات المساءلة المتعددة الصحفي الفاضل الذي تعمل بعض المؤسسات الإعلامية على التلاعب به وتوظيفه وتشييئه والمواطن في الوقت ذاته لأنها تضمن حقه في حماية نفسه من المؤسّسات الصحفية والإعلامية المتلاعبة بالحرية وبسلطة الإخبار . 
لنأخذ مثالا ملموسا عن ذلك حتى يفهم القارئ ما نريد أن نعبّر عنه.  هل يمكن للقنوات الخاصّة والعمومية التونسية أن تفعل ما تريد في مجال الإخبار مثلا؟  هل يمكن لها مثلا أن تنجز نشرة إخبارية وفق رغباتها وإستراتيجياتها المصلحية؟ هل يمكن للصحفيين في قناة تلفزيونية عمومية أو خاصة أن يحولوا النشرة الإخبارية إلى فضاء خاص بهم يشكّلونه وفق أذواقهم ومشاغلهم ومصالحهم وموازين القوى بينهم؟ ماذا تعني الحرية في هذه الحالة ؟ هل تعني أن الصحفي يمارس مهنته كما يشاء دون الخضوع إلى أية التزامات  وهل يعني هذا أن المؤسّسة الإعلامية يمكن أن تتعامل مع الأخبار كيفما تشاء؟ وإذا كانت هذه الحرية يمكن أن تؤدي نظريا إلى العبث بقيم الصحافة فكيف يمكن تنظيمها حتى لا تتنصّل المؤسسات الإعلامية من التزاماتها المجتمعية؟
كيف يمكن أن نحمي النشرات الإخبارية في قنواتنا التلفزيّة من الإنزلاقات المتعددة ؟  ما هي الأطر التنظيمية  (التعديليّة) الذاتية التي يضعها الصحفيون أنفسهم والمجتمع والتي يمكن أن تساعد الصحفي الفاضل المتشبث بحريته على ممارسة صحافة مستقلة ومهنية وملتزمة بالأخلاق المهنية؟ 
إذا اعتمدنا المقاربة التي تقرّ بالتوازن بين الحريّة والمساءلة، ما هو ذلك الإطار التنظيمي الغائب في تونس الذي يمكن أن يمارس فيه الصحفي حريته حتى لا تتحوّل النشرة الإخبارية إلى خليط من الأخبار تنتج وترتب  وتشكل حسب الأهواء والمصالح وموازين القوى السائدة ؟
إن نظرنا إلى الممارسات الجيّدة والمعايير التنظيمية في العالم الديمقراطي يمكن أن تصوّر الأطر التالية:
ـ أولا: مدوّنة تنظيمية تحدّد دور التلفزة العمومية والقنوات التلفزية الخاصّة الذي حصلت على الترخيص وفق كراس شروط. وفي حالة عدم التزام القنوات العمومية والخاصّة بهذه المدوّنات فيمكن للهياكل  المستقلة المسؤولة عن تنظيم الإعلام أن تحاسب القنوات العمومية والخاصة.
ـ ثانيا : الميثاق الأخلاقي الذي يضعه الصحفيون  والذي يمثل آليّة يسائل  من خلالها الصحفيون  من حاد منهم عن هذا الميثاق. 
ـ ثالثا : مدوّنة تحريريّة تحدّد القيم التي يلتزم به الصحفي في عمله في التلفزة العمومية مثلا (وأشهرها  مدوّنة البي بي سي). ويمثل إشهار هذه المدونة أحد شروط فعاليتها الأساسية. وتختزل هذه المدونة المبادئ المهنية التي يكتسبها الصحفي أثناء تكوينه الجامعي أو المهني والتي، إن  احترمها، تحميه من عدة إنزلاقات (القاعدة الذهبية التي تقول بأن الخبر مقدس والتعليق حرّ مثلا).
ـ ورابعا : آليات مخصوصة لضمان التنوّع في النشرات الإخبارية. فعلى سبيل المثال يطلب المجلس الأعلى السمعي البصري الفرنسي القنوات الفرنسية العمومية والخاصة بمدّه بتقرير شهري مفصل عن المدة الزمنية التي تم إسنادها إلى الفاعلين السياسيين (رئيس الدولة ومستشاريه، الوزير الأول، الأحزاب السياسية... ). وهذا مثال هامّ جدا لأنه يؤكد أن الصحفي لا يمكن له أن يحتكم إلى رغباته  في عملية   تحديد المتكلمين في النشرة الإخبارية  والتي يجب أن تخضع إلى مبدأ التنوع والمساواة (أنظر المؤطّر).
ـ خامسا : آليات مراقبة تتيح للمجتمع إبلاغ صوته إلى الصحفيين والمؤسّسة الإعلامية. هكذا أنشأت البي بي سي نظاما متطورا يسمح للمواطنين البريطانيين بعرض شكاويهم من خلال منظومة إلكترونية (موقع واب). أما القنوات الفرنسية العمومية فقد أنشأت مجلس المشاهدين يقع تجديده كل سنة ويسمح للمواطنين بإبداء رأيهم في البرامج الإخبارية وغير الإخبارية. (www.bbc.co.uk/complaints)
ـ سادسا : آليات وساطة وتوفيق  تأخذ بعين الاعتبار رؤى  الجمهور. وبمقتضى هذه الآلية تكلّف المؤسسة الإعلامية أحد صحفييها الذي تتوفّر فيه المصداقية والخبرة ليصبح الوسيط médiateur) ) أو الموفق الإعلامي (News Ombudsman) الذي يبلغ صوت الجمهور إلى الصحفيين. وانتشرت هذه الآلية ذات المنشأ الأنقلوسكسوني في كل المؤسّسات الإعلامية العالمية.
ـ سابعا : مجلس الصحافة الذي تعتبره اليونسكو آلية التنظيم الذاتي الأكثر فعاليّة للدفاع عن حرية الصحافة  وعن حقّ المواطنين في صحافة أمينة ومهنية ومستقلّة. ومجالس الصحافة ذات المنشأ الإنقلوسكسوني (وأشهرها لجنة الشكاوى الصحفية البريطانية Press Complaints commision)  منتشرة في كل الدول الديمقراطية (باستثناء فرنسا) وهي تتكوّن من الصحفيين والمواطنين ومديري الصحف وتتلقى شكاوى المواطنين حول القضايا التي لا يشملها القانون وتبتّ فيها بشكل صلحي. ويدافع مجلس الصحافة عن حرية الصحافة لأنها  تضمن حق المواطن في صحافة مهنية تنيره.
كما يدافع المجلس عن حقّ المواطن عندما تحيد الصحافة عن مهامها. ولنذكر في هذا الإطار الرأي الاستشاري الذي نشره مجلس الصحافة البلجيكي حول استخدام الصحفيين للشبكات الاجتماعية والذي يدعوهم إلى التزام الأخلاقيات المهنية حتى عندما يثرثرون على حائطهم في الفايسبوك!
لنتصوّر الآن أن كل هذه الآليات  التنظيمية الذاتية والمجتمعية فاعلة في بلادنا، هل يمكن أن تتحوّل النشرات الإخبارية إلى فضاءات خاصّة خاضعة للحسابات الضيقة والأهواء ؟  وهل يمكن أن تتحوّل القنوات إلى «مزارع خاصّة» يتصرف فيها مالكها..... كما يشاء؟
 إن الصحفي الفاضل والماهر هو ذلك الذي يمارس حريته وهو عالم بكل هذه الآليات التي تراقبه وتحميه. إن الصحفي الذي نحتاجه اليوم هو ذلك الذي يقبل بل ويطالب بهذه الآليات التي تشكّل السلطة الخامسة التي تحميه كذلك من المتلاعبين به والذين يريدون توظيفه كأداة لغايات شخصية.
نحو مؤتمر وطني حول الإعلام
حان الوقت في تونس لتنظيم نقاش عام في شكل مؤتمر وطني يجمع الصحفيين والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني لصياغة «عقد مجتمعي حول الإعلام» يقر أمرين أساسيين:
أولا : الدور المجتمعي المركزي للصحافة باعتبارها مؤسّسة أساسيّة  للمجتمع الديموقراطي  المتنوع والمتعدد والذي لا يقوم بدونها لأنها تضمن حق المواطن في النفاذ إلى مصادر المعلومات وفي الأخبار الموثوقة وذات المصداقية ويقرّ كذلك بحق الصحفيين  في الاستقلالية والحرية والهيبة  وحقهم في ممارسة أدوارهم في إخبار التونسيين بالطرق المهنية.
ثانيا : الالتزامات  المهنية والأخلاقية والمجتمعية للصحفيين والمؤسّسات الإعلامية التي تضمن حق المجتمع في مساءلة الصحافة عندما تتحوّل إلى آلية للتلاعب بعملية تشكيل إرادة المواطنين وممارسة توظّف  لتشويه الوقائع أو لخدمة مطامح شخصية جدا.  
إن هذا العقد الإعلامي الجديد يتجاوز في رمزيته قانون الصحافة ويضفي «قداسة» على الصحافة لأنه يمثل التزاما جماعيا بمكانة الصحافة باعتبارها مؤسسة  مستقلة ومتحررة من الضغوط السياسية والاقتصادية على غرار القضاء.  فالتونسيون، إذ أرادوا حقا حياة سياسية ديمقراطية، بحاجة إلى قضاء مستقل وصحافة مستقلة أيضا. لأن حرية الصحافة ليست حقا للصحفي فحسب بل هي أيضا حقا لكل مواطن يريد أن يعيش حرا.
المعايير المهنية الناظمة للمعالجة الإخبارية
حسب البي بي سي (BBC Editorial Guidelines)
ـ الحقيقة والدقة
ـ الحياد : تؤكد المعايير هنا على ضرورة التقدير الجيد للأحداث والآراء والحجج وامتناع الصحفيين عن التعبير عن آراءهم الخاصة. 
 ـ الأمانة المهنيّة
ـ الامتناع عن التشهير
ـ خدمة الصالح العام
ـ الموضوعية والعدل
ـ احترام الخصوصية
ـ حماية الأطفال
ـ المساءلة  : التأكيد على قبول مبدأ المساءلة والانفتاح على الجمهور  لأن الثقة في  البي بي سي أساسية. وتلتزم البي بي سي بإصلاح الأخطاء  والاعتراف بها والتعلم منها.  
بعض المعايير المتصلة بالأخبار حسب مجموعة تلفزيون فرنسا العمومية La charte de l’antenne
ـ التعبير عن تنوع الأفكار والآراء
ـ الأمانة
ـ الاستقلالية
ـ الدقة في رواية الأحداث
ـ الموضوعية والعدل في معالجة أخبار الأفراد والمؤسسات
ـ الحياد
ـ ترتيب الأخبار حسب أهميتها (من مسؤولية رئيس التحرير)
ـ الوضوح والمقروئيّة
ـ التثبت من المصادر.